دائرة الثقافة والفن
د. عمر سيد الأهل
كلمة أولى
عبر مقاله الأشهر " صراع الحضارات" أشعل صامويل هنتجتون عام 1993 جدلا عالميا حادا في دوائر السياسيين والعسكريين والإستراتيجيين والمثقفين وغيرهم حول نظريته التي طرحها في هذا المقال، بل ولا يخفى علينا تأثيره الأشد على دوائر المحافظين الجدد من صانعي القرار في الولايات المتحدة الأمريكية أولعلنا ندرك انها كانت تعبيرا عن توجهاتهم وآرائهم المسبقة ولم يكن دوره إلا صياغتها بصورة نظرية أكاديمية لوضعها على طاولة الحوار !!! ومن أشهر مأثوراته:
-
أن المصدر الرئيسي للنزاع في العالم الحديث لن يكون في الأساس عقائديا أو اقتصاديا فالتقسيمات الكبرى للجنس البشري ومصدر الصراع الحاكم سيكونان على اساس اختلاف المكون الثقافي.
-
ستبقى الدول القومية كأقوى اللاعبين في العلاقات الدولية، ولكن النزاعات الرئيسية في السياسة العالمية ستحدث بين الأمم والمجموعات المختلفة من الحضارات.
-
صراع الحضارات سيحكم السياسة العالمية والفوارق بين الحضارات ستكون خطوط القتال في المستقبل.
-
إن عوامل الفوارق والإختلاف الثقافي بمفهومه الشامل سيكون أساس الصراع في عالم القرن 21.
ولكن هل ما قاله هنتجون صحيح في عمقه التاريخي أو في ما نتمنى أن يكون مستقبلا في ظل نظام عاملي جديد وفي ظل عولمة نعيش في ظلها سواء قبلنا أم بيننا ؟؟ إن على المفكرين والمثقفين عموما واجبا للتصدي لمثل هذه النظريات والأفكار العنصرية الهدامة – كما فعل إدوارد سعيد وغيره – ولعل إعادة قراءة التاريخ دون تعصب سوف تشكل عاملا هاما في استشراق المستقبل أو على الأقل في وضع أطر لما يجب أن نصيغ عليه خطط وآمال وأحلام المستقبل.
يقول الكاتب المغربي الدكتور جميل حمداوي :
" إن معظم الحضارات الإنسانية المتعاقبة نشأت على شواطيء حوض البحر الأبيض المتوسط فهو منبع الحضارات الإنسانية وملتقى الثقافات وموطن الشعوب والأعراق المختلفة. كما أنه موطن تزاوج النظريات والأفكار والفنون والآداب ومهبط ومسعى الأديان السماوية الرئيسية. لقد عرفت منطقة المتوسط حضارة ثقافية مزدهرة متنوعة في موادها وأدواتها ومضامينها وأشكالها لقد كانت هذه الحضارات والثقافات خاضعة لجدلية التواصل والصراع وجدلية الإنفتاح والانغلاق. وقد انتقلت شعلة الحضارة وتوزعت بين شعوب المنطقة عبر الإحتكاك الثقافي والتواصل الحضاري.
إن التعاون بين دول الشمال وجنوب أو التعاون الأورومتوسطي ضرورة حتمية بغرض استمرار هذا التواصل الثقافي والحضاري ولتدعيم السلام العالمي وإعلاء قيم التسامح والقضاء على التعصب والعنف فلابد لنا من تعزيز المنظومة التربوية بالقيم الانسانية التي توجه الإجيال الجديدة نحو الحوار وحسن الأستماع للآخر واحترامه والقبول بالإختلاف الحضاري والتمايز الثقافي.
ولعلي أنقل لكم فقرة من مذكرات فتاة سويسرية عاشت في الإسكندرية بين عامي 1934 و 1950 تقول استرتسيمرلي – هارتمان :
" كنا نعيش في الإسكندرية في الأربعينات من القرن العشرين ، حيث كان يسكن مواطنون من بلدان البحر المتوسط وكان من بين هؤلاء بالإضافة الى المصريين بالطبع – اليهود والشوام واليونانيون والمالطيون والأرمن والإيطاليون وكثيرون من بلدان البحر المتوسط وبينما كنا داخل الفصل نتحدث بلغة الدراسة إلا أننا خارجها وفي البيوت والأسواق وعلى الشاطيء كنا نتبادل الحديث بخليط من اللغة العربية واليونانية والإيطالية والأرمنية وكلنا نفهم – غالبا – ما تقوله الأخريات هكذا كانت الإسكندرية مدينة يعيش فيها جنسيات شتى وطوائف متعددة ، وكانت دائما مجتمع الإنصهار والتسامح الديني والعرقي.
استرتسيمرلي اذن لا تقبل بأفكار هنتجنون ولا توافق عليها دون أن تصرح لنا بذلك بل لعلها لم تقرأ مأثوراته ومقالاته أيضا ولكن حياتها في اسكندرية مصر كانت غير ما يقوله تماما !!!
إن دائرة الثقافة والفن وهي مؤسسة أهلية لا تسعى للربح تؤمن بأن العمل الأهلي لا يجب أن ينتهي عند حدود العمل الخيري في العطاء المادي فقط، فكما تحتاج البطون الى الغذاء والأجساد الى المسكن والدواء فإن العقول والقلوب بحاجة شديدة الى التفكير والتدبر والإهتداء، ولن يكون ذلك إلا بالإهتمام بالثقافة بمفهومها الشامل واحياء دورها في التقارب لافي التباعد .. والتسامح لا في التعصب الجاهل !!!
إننا في الدائرة نشترط فيمن ينضم الينا أو يشارك في انشطتنا أن يقبل الآخر وأن يحترم آراءه لا نقبل الإزدراء ولا نقبل التعصب ولا نسأل عن الجنسية أو الدين فلا كهنة أو ضباط جوازات على أبوابنا ثم اننا نؤمن بأننا جميعا عيال الله وخلقه وعبيده " كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا واليك المصير" صدق الله العظيم.
أرجو أخيرا أن يجد القاريء في هذا الكتاب " عصر القاهرة الجميل " متعته ومبتغاه في معرفة ذلك العصر ، وهو العصر الذي تجلى فيه التبادل والتكامل الثقافي والحضاري بين بلدان حوض البحر المتوسط ممثلا في العمارة والكتابة والصحافة والفنون التشكيلية بل وحتى في الأزياء وغيرها. وكان تأثر العمارة بفن وروح العمارة الأوربية بوصفها ثقافة وفنا قبل أن تكون عمارة جامدة. إن العمارة ليست حجرا أصم وانما هي انعكاس لحالة مجتمعية عامة وهي مرآة لروح اناس وشعوب وعادات وتقاليد وظروف مناخية وغيرها انعكست على قلم المعماري ولوحاته ليخرج لنا مكنونا معماريا ثقافيا حيا بكل معنى كلمة الحياة. فالأهرامات العظيمة ليست أحجارا متهالكة متراصة صامتة وإنما هي معبد نقرأ فيه كتاب تاريخ عظيم؟ إن كل نقش على حجر في الأهرامات يحكي قصة فرعون أو كاهن كما أن كل حجر بغير نقش يحمل آثار عرق عائلة أو عامل شارك في صنع ذلك التاريخ العظيم ويروي قصته.
أشكر كل من ساهم في خروج هذا العمل الى النور من الزملاء في الدائرة ، كما أشكر فريق المشروع من الأساتذة الكبار الذين أعطوا من وقتهم وجهدهم لكي يخرج هذا الكتاب معبرا عن أفكارنا جميعا بغير استثناء.
لا يسعني أخيرا إلا أن أشكر بعثة الإتحاد الأوروبي- شركاءنا في المشروع – على التمويل الذي أتاحوه لنا لكي يخرج هذا المشروع الى دائرة الضوء.
هذا العمل .. د. سامي سراج الدين
بداية نتوجه بالشكر العميق للمفوضية الأوروبية بمصر التي قامت بالمشاركة مع مؤسسة " دائرة الثقافة والفن" بتمويل هذا المشروع الثقافي الوطني الهام – مشروع " عصر القاهرة الجميل ، الأنساق المعمارية ؛ - والذي يهدف لرصد وتوثيق بعض الأنساق المعمارية والمجتمعية لتراث القاهرة البنائي ذي التأثيرات الأوروبية بمنطقة وسط البلد والذي يرجع لأواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين..
وقد تناول النشاط الثقافي المشاكل والسلبيات التي تهدد هذا التراث والرؤى المختلفة للتفاعل الإيجابي معه، وقد تم ذلك من خلال الطرح المدقق لمجموعة من الأنساق المعمارية والثقافية في النطاق الجغرافي المحدد ( القاهرة الخديوية) ومن خلال جلسات عمل على عدة مستويات ضمت جموع المعماريين سواء الأكاديميين أو الممارسين وكذلك كوكبة من المثقفين والمسئولين التنفيذيين وطلاب العمارة الذين كان القاسم المشترك بينهم جميعا هو الإهتمام بمستقبل قلب العاصمة الجميلة.
وقد تبين لنا من خلال رصدنا لأحداث النشاط الثقافي أنه طوال القرن التساع عشر ومطلع القرن العشرين كانت هناك رؤية مستقبلة للطبقة السياسية والفكرية المصرية لقيام دولة مصرية حديثة تماثل وتضارع أعظم الحواضر الأوربية في ذلك الزمان ، وكانت رغبة الخديوي اسماعيل في جعل مصر قطعة من أوربا – ولتكن القاهرة باريس الشرق – والغرب، وهو ما نأمل اليوم في تفعيله من خلال برامج ومشاريع الشراكة الأوربية – المصرية، ونرجو أن يكون هذا المشروع باكورة لتعاون مثمر للحفاظ على التراث الذي يمثل علاقة التقارب بين مصر وأوربا.
تم رصد وتوثيق واستقراء كافة وجهات النظر التي طرحت حول تعيين وتحليل الأنساق المعمارية و الثقافية لمنطقة وسط البلد في صورها المادية واللامادية وكيفية الحفاظ على هذا الموروث الحضاري وقد تم طرح هذه الرؤى من خلال ورش العمل المختلفة أو من خلال أبحاث ودراسات قدمها بعض الباحثين والخبراء. ويهمنا أن نشير هنا الى أن تسجيل وتوثيق التجربة كان عبارة عن عملية مستمرة بدأت منذ اللحظة الأولى لبداية هذا النشاط الثقافي، وهي عملية ذات شقين ، شق التدوين للإطار النظري ونتاج قراءة وتحليل الأنساق وشق الرصد البصري للأنساق نفسها سواء من خلال الصور الفوتوغرافية أو التسجل المرئي الحي.
وقد توج هذا العمل بإصدار هذا الكتاب الذي بين أيدينا الآن بالإضافة الى اسطوانة الكترونية توثق التجربة منذ البدايات وحتى المنتج النهائي مرورا بجلسات وورش العمل مع المجموعة المستهدفة ورصد الأنساق ميدانيا وانتهاءا بإخراج العمل في صورته النهائية ، ويمكن اعتبار هذا العمل المتواضع لبنة في اطار تنشيط ثقافة وفكر الحفاظ على التراث المعماري والعمراني بالقاهرة التي تعتبر جزءا هاما من التراث العالمي الذي يجب الحفاظ عليه وحمايته من حملات التشويه العشوائي...
وتتمثل الأهمية الفعلية لهذا النشاط في تسليط الضوء على ضرورة الحفاظ على هذا التراث العمراني العالمي – الأوروبي الملمح المصري المنشأ – كأحد ثمرات ( التعاون الأوروبي – المصري ) على مر الأزمان ... وكدعوة للتعاون بين الطرفين في زمننا الحالي لإحياء عصر القاهرة الجميل...
أخيرا وليس آخرا فأنه لا يفوتنا أن نعبر عن خالص الشكر لكل من شارك وساهم في أي من أنشطة المشروع والذي يعتبر هذا الكتاب أحد ثمارها...